قامت حركة إحياء النموذج على “أساس بعث الموروث الشعري القديم في عصور ازدهاره وجعله مثالا يحتذى، من خلال استهام أغراض القصيدة العربية القديمة وطريقة نظمها وبنائها قصد التعبير عن مشاعر الذات وقضايا العصر…([1])
وبعبارة أخرى فقد “جاءت حركة انبعاث الشعر العربي مرتبطة بإحياء القديم وبالاطلاع على مذاهب الشعراء القدماء في تناول الأغراض والتعبير عن المعاني، وكان وراء حركة الإحياء وعي بالماضي ومن وراء هذا الوعي الشعور بأنه مُستقر المثل الأعلى، وهكذا يجب أن تحفظ المراتب في التعليل، لا أن يلقى بها جزافا بحيث تقع كما يُتفقُ لها أن تقع بين السببية والمسببية.”([2])
– السياق التاريخي والرواد:
شهد العالم العربي في آواخر القرن التاسع عشر نهضة واسعة تجسدت في ظهور حركة فكرية نادت بالتحرر من الاستعمار وتجاوز مظاهر الجمود ورواسب الانحطاط، وحركة أدبية موازية تمثلت في إحياء نموذج القصيدة العربية القديمة. وقد قام بهذه المحاولات شعراء أحسوا بضرورة إحياء الصورة القديمة للشعر، ولكنهم لم يقووا على التحليق في أجواء الشعر الصحيح إلا بقدر محدود، فكانت أشعارهم تدل على هذا البعث بتطلعها أكثر مما تدل بمقوماتها الفنية واقتدارها على المحاكاة والمجاراة، كأشعار الساعاتي وصاح مجدي وعبد الله فكري من المصريين وناصيف اليازجي ويوسف الأحدب من السوريين.([3])
غير أن رعيلا من الشعراء مَثَّل طورا جديدا من أطوار الشعر الإحيائي بغير تمهيد بالنظر إلى طريقته وأسلوبه، أطلق عليهم دارسوا الأدب الحديث بشعراء الإحياء من أمثال محمود سامي البارودي (1840-1904) وأحمد شوقي (1868 – 1932) وحافظ إبراهيم (1872- 1932) في مصر، وجميل صدقي الزهاوي (1863-1936) ومعروف الروصافي (1877- 1945) في العراق، وأقرانهم في الشام أو الجزيرة، إذ هم الذين صنعوا بداية النهضة الحديثة.([4]).
كما ضمت العديد من الرواد العرب مشرقا ومغربا مثل البارودي ومعروف الروصافي وجميل صدقي الزهاوي وأحمد شوقي ومهدي الجواهري وعلال الفاسي وابن عثيمين وسواهم…
– عوامل ظهور حركة إحياء النموذج:
ظهرت حركة إحياء النموذج نتيجة عوامل خارجية وداخلية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: ضعف العثمانيين والاستعمار الغربي للعام العربي، وظهور حركات وطنية تنادي بإجلاء الاستعمار، وأخرى سلفية توفيقية تنادي بالأصالة والمعاصرة… يقول جابر عصفور فقد “كانت هذه النهضة نتيجة الصدام بالحضارة المتقدمة لآخر الأجنبي، أو محصلة تفاعل عوامل داخلية، او تجاوبا مع العوامل الداخلية والخارجية… وكان ذلك في سياق تاريخي، توافقت فيه الدعوة إلى تجديد الفكر، والدعوة إلى تجديد الشعر… وذلك بتحرير الشعر من قرارة هوة العقم التي انتهى إليها، والعودة إلى عصور حيويته، وبعث هذه العصور وإحيائها بما يدفع حركة الاجتهاد الشعري في طريق المستقبل الذي بدا واعدا.”([5])
– خصائص حركة إحياء النموذج:
المدرسة الإحيائية بخصائص عديدة ولعل من أهمها أن هذا الانبعاث والإحياء “صحح مفهوم الشعر لدى الشاعر ولدى المجتمع على السواء، فقد كان الشعر قبل هذه الفترة فترة الانبعاث قد انحط بحكم سوء فهم رسالته أو بحكم فساد مفهومه لدى الشاعر ومن يتوجه إليه الشاعر بشعره، فاعتبره هذا وذاك ملهاة وتسلية وفنا من فنون المغالبة بالكلام في صياغة الألفاظ والأوزان، ولا تعرض هذه الآفة إلى عصر من عصور الأدب إلا أودت بالشعر في مهاوي الإسفاف والغلو في التصنع وتشويه المعاني وتكلف المحسنات…
وثاني هذه الخصائص أن الشعر أزاح عن نفسه على يد البارودي كل ما طمس رُواءه من أصباغ الصناعة البديعية، من كلفة التلاعب اللفظي، أو من أوضار التقليد كاقتناص التوريات والتضمينات إلى كتابة التأريخ وتطريز الأعاريض والاحتفاء بضروب البديع. وبذلك قام الشعر جديد على أسسه القديمة من متانة التركيب وجزالة اللفظ ونصاعة المعنى وقوة الجرس.
أما ثالث هذه الخصائص فهو الاقتباس من القديم بأوسع ما تدل عليه كلمة الاقتباس من معان. فقد تغذت حركة هذا الشعر من اشعر القديم لفحول الشعراء وأعلامهم في عصور الازدهار، تأثرت بصورهم الأدبية وبطرائقهم في التعبير والمجاز، وبألفاظهم ومعانيهم في كل باب من أبواب القول وفنون القريض.
ورابع هذه الخصائص هو النزعة البيانية في هذا الشعر، والمقصود بها أن شعراء هذا البعث، وفي مقدمتهم البارودي، استبدلوا الصياغة البيانية من النظم البديعي. فعادوا بالشعر إلى طريقة القدماء وإلى اعتمادهم على المجاز والاستعارة. وعى هذه الصورة الوصفية المادية أو الملموسة للمعاني عن طريق التشبيه والمجاز.([6])
[1] – جابر عصفور، استعادة الماضي دراسات في شعر النهضة، (دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الثانية 2002،) ص.15.
[2] – محمد الكتاني، الصراع بين القديم وجديد في الأدب العربي الحديث، الجزء الأول، ص. 247.
[3] – محمد الكتاني، الصراع بين القديم وجديد في الأدب العربي الحديث، (دار الثقافة، الطبعة الأولى 1998) الجزء الأول، ص. 247 وما بعده بتصرف.
[4] – جابر عصفور، تحولات شعرية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2016،) ص. 21.
[5] – جابر عصفور، استعادة الماضي دراسات في شعر النهضة، ص.14.
[6] – محمد الكتاني، الصراع بين القديم وجديد في الأدب العربي الحديث،، ص. 247.