تظلنا هذه الأيام أيام الربيع النبوي ولعلها فرصة للحديث عن الشخص الكريم على الله النبي صلى الله وسلم واقترابه من الشعر والشعراء. وسيكون مفيدا أن نبدأ بهذا السؤال هل الحكم بنفي صفة الشاعر عن الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: “وما هو بقول شاعر”[1]، وفي قوله تعالى: “وما علمناه الشعر وما ينبغي له”[2] يتعارض مع علمه بالشعر؟
– لِمَاذا لَمْ يكن النبي صلى الله عليه سلم شاعرا؟
لعل بعضَ مداخل هذا السؤال قبل الجواب عنه نجده في سورة الشعراء في قوله تعالى: “والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون”[3]. حقا النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن شاعرا. لماذا؟ ببساطة لأن الشعراء عُرفوا بالهيام في أودية الكلام، أي أن الشاعر يعرف باستجابته لانفعالاته وعواطفه المتقلبة التي لا تثبت على حال… “ألم تر أنهم في كل واد يهيمون” قيل هذا “تمثيل لذهاب الشعراء في كل شِعْبٍ أو سبل من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق.”
– مثال أول لمغالات الشعراء ومبالغاتهم:
هذا الكلام يجد صدقه في الكثير من الصور الشعرية التي نجد فيها مغالات وخروج عن المنطق، .. لاحظوا مثلا أحدهم يصف مشهدا في معركة:
ضربته فــي الملتقى ضـربة *** فــزال عـن منكبه الكاهلُ
فصــار مـــا بينهــما فجــوة *** يمشى بها الرامح والنابل
فبمقياس العقل والعادة لا يمكن أن نتصور ضربة سيف تفصل الكاهل عن المنكب تاركة فجوة أو فراغا يسمح لحاملي النبال وحاملي الرماح أن يمروا بينهما.
ومن منا أيضا، لا يعرف مبالغات ابن هانئ الأندلسي في مدائحه، فمن ذلك قوله يمدح المعز:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار
وهذا يُخالِفُ الواقِعَ حَتّى قِيلَ: أعذبُ الشَّعْرِ أكْذَبُهُ.”
– مثال ثان لهيام بعض الشعراء ومغالاتهم:
من معاني الهيام الحيرة والتردد في المرعى. وإنَّما تَرْعى الإبِلُ في الأوْدِيَة إذا خلت المساحات الخضراء تماما كالروابي من العشب، فَشُبِّهَ حالُ الشُّعَراءِ بِحالِ الإبِلِ الرّاعِيَةِ في الأوْدِيَةِ وهي مُتَحَيِّرَةٌ؛ وقيل أيضا الهُيام والوادِي مُسْتَعارانِ لِمَعانِي اضْطِرابِ القَوْلِ في أغْراضِ الشِّعْرِ. “وأنهم يقولون ما لا يفعلون” ولتتضح الصورة أكثر دعونا نقف مع هذه القصة التي تناقلتها كتب السير والأدب والشعر ..
روي أن النُّعْمانَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ كانَ عامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ فَقالَ شِعْرًا يصف فيه مشهدا شبيها بما يدور فيما يعرف في زماننا بعلب الليل أو الملاهي الليلية منه هذا البيت:
لَعَلَّ أمِيْرَ المـؤْمـنـينَ يَسُـوْؤُهُ *** تَنَادُمُنا في الجَوْسَقِ المُتَـهَـدِّمِ
فرد عليه عمر رضي الله عنه: وأي اللهِ لقد ساءني ذلك وقد عَزَلْتُكَ”. فقال النعمان: واللهِ ما كانَ مِن ذلك شَيْءٌ، وما كانَ إلاّ فَضْلُ شِعْرٍ وَجَدْتُهُ، وما شَرِبْتُها قَطُّ. فقال عمر بن الخطاب: أظُنُّ ذاكَ، ولكن لا تَعْمَلَ لي على عَمَلٍ أبَدًا.” وقول الإنسان ما لا يفعل خصلة ذميمة أخلاقيا. والنبي صلى الله عليه وسلم يمتنع فيه أن يقول ما لا يفعل …
– النبي عليه الصلاة والسلام وعلمه بالشعر:
هل الحكم بنفي صفة الشاعر عن الرسول صلى الله عليه وسلم يتعارض مع معرفته وعلمه بالشعر؟ ولعل هذا السؤال يطلب سؤالا آخر هو ماذا ندرك في الشعر..؟ أو ماذا نعلم في الشعر؟ ندرك “الكلام” (لأن الشعر كلام) وندرك “الموسيقى”(لأن الشعر وزن وإيقاع)، وندرك “المعنى” (لأن الشعر كلام موزون مقفى دال على معنى). وسنقف في هذا المقال عند العنصر الأخير عنصر المعنى ..
ودون إطالة في الموضوع نقول إن خير من أدرك عوالم المعاني بعمق، بل معاني المعنى وخبرها جيدا وعَلِمَ أين تكمن؟ وأدرك قيم الوجود وقضايا المصير والإنسان في عمقها؟ وأدرك الحقيقة.. والمعرفة بالخالق عز وجل.. وهذه أكبر وأعظم “… “الرحمن فسأل به خبيرا” .. خير من أدرك كل ذلك هو الرسول النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
انطلاقا من هذا المقام العلي في إدراك سؤال المعنى أعتقد أنه سيكون من السذاجة أن نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحيط بالمعنى في الشعر ولا يعلم بخبايا المحتوى فيه.
– النبي صلى الله عليه وسلم ورأيه في الشعر:
لنتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: “أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء خلا الله باطل.”[4] هذا شطر أول من بيت شعري للبيد.. وتمامه: وكل نعيم لا محالة زائل.
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم رأيٌ في معنى هذا البيت؛ إذ جعل شطره الأول أصدقَ كلمة قالها شاعر. ولعل السكوت عن المعنى في الشطر الثاني من البيت هو الآخر رأي في معنى “وكل نعيم لا محالة زائل”. وقد جاء في الأثر تصحيح المعنى للبيد حين قيل له: كل نعيم زائل إلا نعيم الجنة.
وهذا للتأمل على سبيل التذكير، لا على سبيل تقديم الحجج في امتلاك النبي صلى الله عليه وسلم للمقام العلي في إدراك المعنى، لأننا بحضرة خبير بالمعنى ومعلمه. “ولا ينبؤك مثل خبير”.
– النبي صلى الله عليه وسلم وإنصاته للشعر:
أختم بواحدة تضعنا في حضرة عنايته عليه الصلاة والسلام بالمعنى وإنصاته لشعر المعنى، من ذلك إنصاته بكثرة لشعر أمية بن الصلت. فعن عمرو بن الشريد بن سويق الثقفي عن أبيه: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “هل معك من شعر أمية بن الصلت؟”. فقلت نعم: قال: “هيه” [يستحثُّه على الاستمرار في الإنشاد] فأنشدته بيتا. “فقال: “هيه”. ثم أنشدته بيتا. فقال: “هيه” حتى أنشدته مائة بيت”.[5]
– د. عبد الغاني العجان
[1] – سورة الحاقة، الآية 43.
[2] – سورة يس، الآية 69.
[3] – سورة الشعراء، الآية 223-225.
[4] – رواه البخاري ومسلم
[5] – رواه مسلم في صحيحه.